الثلاثاء، 15 أبريل 2014

الحلقة 29: الثريا من تحت الثرى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعزائي القراء حديثنا لهذا اليوم في  الحلقة29 والتي بعنوان
(الثريا من تحت الثرى):
فقبل أيام ﻻ أدري أكانت قريبة أم بعيدة ودعت جدتي الحبيبة (سلمى)، وكأن أرواحنا انسلت معها حين سلم قاربها مكدافه لصانعه جلت قدرته. 
لم تر عيناي قط شخصا تعلقت روحه بالصلاة مثلها، كان الرباط حليفها فيها، فربما سمعت نداء النبي -صلى الله عليه وسلم- المكرر ثﻻثا عن انتظار الصﻻة بعد  الصلاة فقد آذن به قائلا(ذلك الرباط)،بل بات النفل عندها فرضا،إن شغلها شاغل عن صلاة الضحى تنرفزت، وإن لم تجد من يصلي بها التراويح انزعجت وزعلت، وتصلي صلاتها مهلا فتدور الدنيا حول سجادها، وقيامها ثابت حتى اﻹتمام، وتدعو بعدها مهلا ﻻ عاجل يعجلها. 
 ولم تسمع أذناي عن شخص يحب الصدقات نظيرا لها، بل أحيانا تصطنعها، وإن لم تكن في جيبها فروحها في كفها فإن سألتها إياها لم تبخل بها عليك، وكانت تستطني أفضل النخيل التي ﻻ تملكها لتتصدق برطبه وتمره، وعندما يأتي الصيف تراها منشغلة عن الناس ﻷجلهم، فما من سبلة لقريتنا أو ﻷرحامها أو لمعارفها إﻻ وتفكهت برطبها الجني، ثم لتجدها آخر الصيف منحية الظهر تشكو آﻵم العصبة لكثرة سجودها على أكاليل الحصاد تنتقي أفضله ثم لتطهره ثم لتعلبه للناس هدايا مبعثرة على أرصفة الصدقات فيأكل منه الغني والفقير والقريب والبعيد.
ولترف مودتها الظاهرة تجد أبواب القلوب مفتوحة لها تدخلها متى شاءت بﻻ استئذان، وبذاك أحبها الصغير قبل الكبير و الكبير قبل الصغير؛ لذلك تسابقت صرخات بواكيهم نحيبا على حدادها، وروت دموعي كلما جفت نشائج الأطفال.
وحنيتها الراقية شارفت أن تكون حنية محمد للعالمين، فالكل يحاول أن يثبت أنه الأحب لقلبها، وﻻ أبالغ إن قلت إني عندما أمرض أجد أنامل حنانها تمسح على أحشائي الحارة فترطبها حتى أشعر بأني أصح الناس، وﻻ أبالغ إن قلت أحيانا أشتاق الحمى شوقي لحنانها.
وفي مساء ليت أصالته لم تنسج، وليت خيوطه بعثرتها أسنة النهار، مرت روح الحبيبة على أساور بلدتنا ونسماتها تودع باﻷعناق أرواحنا ، وداع الأب لبكره ... وداع الأم لوحيدها ... وداع المؤمن لربيعه ... وداع المتصوف ﻷطلال عرفات.
في صباح ذلك اليوم زارتني في بيتي، كانت تتفقد سيارتي في المواقف فلما رأتها عرفت بمقدمي من العمل، فجاءت لتسلم علي سلاما لو كنت أعلم أنه الأخير لما فارقت جبهتي سجاد فروتها الناعمة، ولما انفكت جفناي عن أريكة يدها الممتدة، ومن العجيب أني عندما أتذكر نظراتها اﻷخيرة كأني قرأت أنها كانت تعلم بمخبأ الأقدار لذلك أبت إﻻ أن تصافحني وهي قائمة وهي عجوز تناهز التسعين، فأين سقاؤكم يا شباب المسلمين من هذا الخلق العظيم.
فليعذرني القراء الكرام إن أصفحت لهم بشيء من أحزاني، ولتسامحني سيرة جدتي العطرة التي لم تسعفني قريحتي المتلعثمة الإيفاء بحقها وإلا لجعلت ذوبان قلبي لأسطرها مدادا. أعذروني ولكني وجدت همتها للخير ثوران شباب ينبض بالإقدام بين جناحي عجوز كهل، ﻻ يعرف الكلل سبيلا إلى إبطائه، فعسى أن يتخذ من ريحها المرسلة قدوة للمخفقين والمتكاسلين أمثالي لمراجعة النفس ماذا قدمت ﻵخرتها عبر بوابة الحياة المقفرة؟. 
إن والدتي سلمى-سلمها الله- قد أوجدت نفسها حيث محبة الله ولم تشأ مفارقة النعيم للجحيم، ولقد استجاب الله لدعاءها إذ كانت تتمنى الموت المريح والخاتمة الطيبة. إخوة الإيمان لم يخطر على قلبي كيف لشخص مستعد للموت استعداد المبشر بالجنة كمثلها وقد كانت تقول في آخر أيامها:
( غايتكم تلبسوني ثوب العروس الأبيض وتخليوا الناس يشلوني إلين قاعة العرس) وتردد دائما:(يالله بسانحة طيبة وخاتمة سهلة
و {إنما يتقبل الله من المتقين}، 
فكان آخر عمل بحياتها صلاة المغرب، ثم لتقع مغشية لمدة يومين حتى الموت فلم ترهق أوﻻدها ولم تذق آﻵم المرض.
وسبحان الله رأيت  حياتها بومتها وكأنها تفاحة تستقطب عيون المتأمل الحذق، فقد اندثرت في وجهها تجاعيد المشيب بعدما غشاها غاشي الموت، فماتت شابة في كهل، يالك خاتمة كان من المنطق أن تستريض بها شقاوة الأنفس لتعود إلى بارئ الوجود مسلمة مسالمة كسلمى، فلله الحمد في اﻵخرة والأولى. 
- أدخلها الرحمن فردوسه الأعلى بعد الرضى -
بقلم: أبوعبدالرحمن سامي بن محمد بن حامد السيابي

الموضوع السابق
الموضوع التالى

كتب الموضوع بواسطة :

0 coment�rios: