الأربعاء، 3 سبتمبر 2014

الحلقة 49 (رسالة من عبقرية أبي تمام إلى مثقفينا):

حديث الاثنين سلسلة حلقاته متنوعه وفي الحلقة 49(رسالة من عبقرية أبي تمام إلى مثقفينا) رسالة تخفي في طياتها اللؤلؤ المكنون اتمنى لكم المتعة والفائدة:
كنا قد فتحنا صفحة نتذاكر فيها (العقلية العربية وتميزها) ولتسمح لي مودتكم نستدرك هنا سطرا منها، لنرتشف رشفة من محيط اﻷدب العربي لنقف عند أحد صناعها المنافسين على المرتبة اﻷولى على المستوى اﻷدبي العربي خصوصا والعالمي عموما.
 والمنافسون على قصب السبق هم(امرؤ القيس، والبحتري، وأبو نواس، وأبو تمام، وأبو العلاء، والمتنبئ) ويرى البرفسور والناقد الكبير محمد علي الدقة المتخصص في اﻷدب الجاهلي أن الأدب اكتمل عند أبي العلاء، ويرى غيره أن المتنبئ حكيم والشاعر البحاري...
تشرب أبو تمام اللغة من رواة العرب اﻷقحاح لذلك استشهد ببعض أشعاره الزمخشري في تفسيره على أن ما يقوله بمثابة ما يرويه، رغم أن أبي تمام جاء بعد عصر الاستشهاد اللغوي عند جمهور العلماء بالنسبة ﻷهل المدن. وفي شبابه عمل ساقيا لطلبة العلم في حلقاتهم وهو يستمع لدروسهم وينهل منها صنوف العلم وعلم المنطق والفلسفة حتى صار عالما فذا مزج علمه بموهبته الفذة ليخرج للناس بمدرسة جديدة (مدرسة البديع)ترأست صدارة العصر العباسي الذي بلغ الشعر فيه ذروته، والتي ذبت عن حماها قرابة قرنين من الزمن، وانتهت بانبعاث مدرسة المتنبئ.
نظر أبو تمام للأدب فوجده يتمحور حول قالب العاطفة، وهي حال يشترك فيها عموم الناس، عالمهم وجاهلم، فقرر رفع سقفه إلى طبقة العلماء فغلب عليه العقل دون العاطفة بإلباسه حلية العلم الجديد الذي انسكب على اﻷمة اﻹسلامية جراء فتوحاتها وهو علم الفلسفة المستقى من اليونان.
حتى أنه في مرة كان يلقي إحدى قصائده على أحد الملوك بحضور أحد اﻷعراب الذين يستقى منهم علم اللغة، ولكن اﻷعرابي لم يفهم من قصيدته شيئا فقال مستغربا ﻷبي تمام: ألا تقول كلاما مفهوما؟. فرد عليه: ألا تفهم ما يقال؟. وهذا يفسر مدى تعرض مدرسة البديعيات للصراع الثقافي في باكورة تجلياتها.
ولما جاء عصر المتنبئ انبثقت من عبقريته هو اﻵخر مدرسة جديدة أعاد فيها الكلام البدوي ولكنه مزجه بالحكمة والفلسفة مع علم البديعيات، وكان المتنبيء لا يفارق ديوان أبي تمام أينما حل وارتحل لتأثره به. وهذا ما يدلل (ربما) ولادة مدرسة المتنبيء من رحم مدرسة أبي تمام، وهكذا كان العرب في تطور وتقدم ثقافي ﻻ ينضب ماؤه إﻻ أنه ركد في عصرنا وركوده يحتاج حجرا يرمى به على وسطه ليتموج من جديد.
ولنتذوق رشفتن من جدول أبي تمام المنساب، نمتع بها حديثنا:
أ. من البديع اللفظي:                                  
⚡السيف أصدق أنباء من الكتب
⚡في حده الحد بين الجد واللعب
ﻻ يكاد يخلو بيت في قصائده من البديعيات؛ ففي عجز البيت تلاحظ الجناس بين كلمة(حده) وهو طرف السيف، وكلمة(الحد) وهو القصاص الفاصل. وكذا في نفس العجز نجد الطباق بين (الجد) الذي عكسه تماما (اللعب) فلا تكد تجد بيتا عاريا من هذا الوفرة العبقرية التي تتكئ على سعة في اللغة وعمقا في المعاني وحﻻوة في التركيب. ولكن هذا في الجانب اللفظي أما الجانب المعنوي ففي المثال اﻵتي.         ب. البديع المعنوي:
⚡وما ربع مية1 معمور يطيف به              
⚡غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب2                       
⚡وﻻ الخدود وإن أدمين من خجل                   
⚡أشهى إلى ناظر من خدها الترب                                                                                                           
(1).(ربع مية): مية اشتهرت بأنها محبوبة رجل اسمه غيلان اللذان اشتهرا بالحب، وربعها هو مكان إقامتها. 
2.(ربعها الخرب): الضمير هنا إشارة إلى عمورية وهي بلد استعمره الروم فقام المسلمون بغزوهم وتدميرها.                                            
يمحور أبو تمام هنا(فلسفة الجمال في القبح)؛ فعبقرية تقول أن خراب عمورية الذي في نظر المسلمين أبهى وأجمل من ربع مية في جماله وقيام عمارته في نظر غيلان عاشق مية. تماما كما يتمنى قلبك أن يرى تل أبيب مدمرة ففيه تدميرها جمال رغم أن ظاهره خراب  إذ (الضد يعرف من حسنه الضد) ولك أن تكمل تفسير البيت اﻵخر على هذا النحو. أخيرا أقول: أنه ﻻ بد من الرجوع إلى ثقلنا العقلي الثقافي المتثل في العلم واﻷدب، وﻻ بد أن ندفع طلابنا وأوﻻدنا دفعا لنسترجع بهم المجد اﻹسلامي فبعد تعلم القران نلقنهم الأدب، فللأسف نجد مثقفي اليوم ﻻ يقيمون جملة وﻻ رسالة موزونة بينما كان الصبي العربي يرتجل ارتجاﻻ بما ﻻينتهي من اﻹبداع، واﻷدب الفصيح هو محض ثقافتنا المشرفة وليست ثقافتنا كما يصورها بعض اﻹعلان المشوش أنها تنصب في الرقص والغناء والخلاعة.
وأخيرا أعتذر للقراء اﻷفاضل فلست متخصصا في اﻷدب ولكنها ومضة بصيص للعقل العربي اﻷدبي.
 📝أبو عبدالرحمن سامي بن محمد السيابي




الموضوع السابق
الموضوع التالى

كتب الموضوع بواسطة :

0 coment�rios: