حديث الإثنين | الحلقة 108 (قصة حاج على شفير الحدود… جزء 6):
كان توكلهم بمثابة البرشوت الذي أنزلهم من شاهق المحنة إلى منحة الاطمئنان {وكذلك ننجي المؤمنين}،
>>وفي ليلة التاسع بات مع رفاقه على أطراف منى في ساحة يملؤها ضجيج الحجيج، و ضوضاء الأضواء، وهستيرية الشوارع، وغبار الهواء، لينتقض نومه سبعين مرة على وقع طبولها، بيد أنه لاطمئنان النفس بعد اجتيازها الحواجز دافعية للمضي وإن ترعلت الأجساد.
مفارقات عجيبة :-
و حينما كورت الشمس جفون الليل توجه مع رفاقه على طريق عرفات، و رأى بمسارحها مشاهد و تقلبات متباينة الوجهات، فخاضت عيناه وهو في طريقه أنهارا من البشر، تدفعهم نسائم الضراعات، وآخرون خلطوا عبادتهم بمخالفات، و الكل في وجهة واحدة، مضى -صاحبنا الحاج- في طريق المشاة ليستشعر معنى الجسدية؛ لتتجسد في خلجاته استشعار العبودية بمحضها، و على جنبات الحجيج جعلت لهم نفاثات مائية على مد الطريق، فغشيت حولهم ضبابية على حالهم لم يدري ما تأويلها حيالهم، فرأى أناسا يتراؤون كاللصوص يختلسون أخلاقهم في مشهد يوم عظيم، فرأى جماعة يتصارعون على طرود تبرعات، بها قليل من زاد، ورأى آخرين يستلمون تلك المساعدات المتبرع بها من قبل جهات خيرية، ليبيعوها في أماكن أخرى، ورأى أشخاصا يبيعون سجائر وخرافات، ورأى جشع مقاولين يمعنون الجشع في بيع البطاقات، وآخرين يغبنون الثمن بلا مساءلات، ولعل المسائلين في سبات، ومن ثَمّ يشتكون على من ينافسهم على تلك الانتهاكات، فيا لها من مفارقات، ورأى و رأى وليته لم يرَ صيرورة أماكن مقدسة إلى أسواق تباع فيها الضمائر وتشترى منها الخزعبلات، أبهذا الحال ترتجى رحمة الله؟!، يقول الإمام أبو إسحاق الحضرمي: (تعصي الإله وترجو الفوز منه غدا… تثكلك أمك من يرمي بلا وترِ). ولكنه رأى آخرين على طرف النقيض، همهم صلاح النفس وتنقيتها من الترهات، وبهذه المشاهد ما يوقض البطائن ويخجل النفوس المقصرة في حق الله جل جلاله،
ومن أجلّها أنه رأى رجلا يحمل أمه المعوقة على ظهره، بوجه مشرق غير متكدر، وهو يطوف بها مناسك العبادات، في مشهد يذكره التاريخ وكأنه ضرب من الأساطير، نعم من مثل تلك المواقف تستمد النفس قوتها، وترتقي بها درجة، ظنها الجميل بحال يبشر بالخير.
ومما يجدر الوقوف عليه أنه التقى برفاق آخرين تعرف عليهم عن طريق أحد أصحابه، فاتفقوا أن يتزمروا في وحدة في وقفة عرفات وباقي المناسك، واختاروه لخطبة عرفات والصلاة بهم بفضل الله، وظل ترابطهم رصينا ممتدا رغم اختلاف مذاهبهم، فهؤلاء الثلاثة بالعمائم البيض، وهؤلاء الثلاثة بالغتر الحمراء، وكانوا يتناوبون الخدمة وإمامة الصلاة، و يتبادلون معاني الود، ولم يعب أحدهم على الآخر في طريقة تعبده أو مبدئه أو ترخصه أو تشدده؛ إذ تظلهم كلمة الله، وتوحدهم راية الإسلام، و تجيرهم لُحمة الوطن الآمن... يتبع... في الحلقة القادمة وهي الأخيرة تناقش فكرة معنى الوطن والتعايش فيه، وحتى ذلك الموعد أترككم بأمن وسلام.
♦تابعونا♦
بقلم | أبو عبدالرحمن سامي بن محمد السيابي
للنشر رحمكم الله
0 coment�rios: